بقلم / د. سعد الدين إبراهيم .. أين محكمتنا الدستورية من مثيلاتها حول العالم؟

لست قاضياً، ولا مُحامياً، ولم أدرس القانون فى أى من كليات الحقوق، فى مصر أو فى الخارج. وكل علاقتى بالقانون والمحاكم، والقضاء هى أننى حوكمت ثلاث مرات، بين عامى ٢٠٠٠-٢٠٠٣، اثنتان منهما أمام محاكم أمن الدولة، والمرة الثالثة أمام محكمة النقض. وتمت إدانتى أمام محكمتى أمن الدولة، حيث حُكم علىّ بسبع سنوات مع الأشغال الشاقة. ولكن المحكمة العُليا التى نظرت طلب النقض، فى المُحاكمة الثالثة، برأتنى من كل ما لفقته الدولة م&auilde;ن تهم. بل وأدانت حكمها التاريخى (فى ١٨/٣/٢٠٠٣) السُلطة التنفيذية، من جراء ما لفقته من تهم «لعالم اجتماع جليل»، وأنها هى التى أساءت لصورة مصر فى المحافل الدولية، كما جاء فى منطوق حيثيات البراءة.

كانت تلكم هى كل علاقتى بالقانون والمحاكم والقضاء.. لذلك استغربت، حينما تكررت دعوات كليات الحقوق فى الخارج لىّ لكى أحاضر فيها «كأستاذ زائر».

وكانت آخر هذه الدعوات، من واحدة من أشهر كُليات الحقوق فى أمريكا والعالم، وهى كلية الحقوق بجامعة «ييل» (Yale). وهى كمثيلتها، فى جامعتى هارفارد وبرنستون تُعتبر أحد محافل تنشئة الرؤساء وكبار السياسيين الأمريكيين.

وخلال الأسبوع الأول لعملى فى تلك الجامعة العريقة، نظمت كلية الحقوق مؤتمراً دولياً، بعنوان «الفلسفة الكونية للقانون الدستورى» (Global Constitutionalism). ودعت الجامعة أربعين من رؤساء المحاكم الدستورية، السابقين واللاحقين، حول العالم مُعظمهم من أوروبا وأمريكا الشمالية، وأمريكا اللاتينية وآسيا.

وكان هناك غياب صارخ للمحاكم الدستورية والعُليا، فى مصر والعالم العربى. وحينما سألت المُنظمين من كلية الحقوق بجامعة «ييل»، لماذ لم تتم الدعوة لأحد من منطقتنا، كانت هناك مُحاولة للاعتذار عن الإجابة. ولكن مع التكرار والإصرار جاءت الإجابة، لا من «المُنظمين»، ولكن من بعض المُشاركين الأوروبيين، الأكثر إطلاعاً ومعرفة بحالة القضاء والمحاكم فى مصر.

وتلخصت الإجابة فى الآتى:

١ـ أن المُخضرمين من القضاة، والمُشتغلين بالقانون، يُدركون التراث العظيم للقضاء المصرى.. ولكن كان آخر عهدنا باستقلال القضاء المصرى والقضاء الدستورى، هو محكمة الدكتور عوض المُر (الذى توفاه الله عام ٢٠٠٤).

٢ـ أن ما يصل المحافل القضائية الدولية، هو أن استقلال السُلطة القضائية فى مصر، يتآكل بالتدريج، وأن السُلطة التنفيذية قد نجحت فى السيطرة شبه الكاملة على القضاء.

٣ـ أن دعوة أى من القُضاة المصريين المعروفين دولياً، إلى مثل هذا المؤتمر، الذى تُجرى فيه المُناقشات بصراحة تامة، قد يُمثل إحراجاً لهؤلاء القُضاة.

جلست أستمع وأتعلم من هذه النُخبة من رؤساء المحاكم الدستورية من هونج كونج، إلى إيطاليا وبريطانيا، إلى شيلى، مروراً بكندا، والولايات المتحدة. واسترعى انتباهى بشكل خاص جلستان، أحدهما حول تأثير التكنولوجيا على المؤسسة القضائية. وبهرتنى إلى حد كبير، المهارة والمعرفة المُتعمقة لهؤلاء القُضاة بآخر صيحات تكنولوجيا المعلومات واستخدام الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، وتأثير ذلك على التقاضى، وخاصة فيما يتعلق «بحقوق الملكية الأدبية» (أى حقوق المؤلف أو المُخترع)، وفيما يتعلق باستخدام الأطراف المُتنازعة أو المُتصارعة للشبكة العنكبوتية خصوصاً، وتكنولوجيا المعلومات عموماً.

من ذلك كيفية حماية حقوق تكرار الأداء العلنى لمعلومات قد يكون لها مصدر معلوم، ولكن بمُجرد بثها من خلال «موجات الأثير»، فإنه من الصعب، إن لم يكن من المُستحيل معرفة، عدد المستخدمين لهذه «المعلومات» أو «المنتجات»، والذين ينتشرون كونياً عبر حدود عدة بُلدان، لكل منها «ادعاءات» السيادة، سواء على المُصدّر (المُنتج)، أو المُستخدم (المُستهلك).

من أغرب وأطرف ما سمعته فى حوارت المؤتمر، هو شهادة أهارون باراك، رئيس المحكمة الدستورية فى إسرائيل، بأن الجيش الإسرائيلى لديه جيش آخر من المحامين الذين عادة ما يُعطون الضوء الأخضر القانونى، لكل صاروخ أو قنبلة يتم إشعالها على الفلسطينيين فى الأراضى الفلسطينية المُحتلة. وهو ما كان يجعل المحكمة العُليا فى حيرة قبل إصدار أحكامها لصالح المُتقاضين الفلسطينيين، فى الحالات التى تمكنوا فيها من الوصول إلى المحكمة. وذلك لأن الحكومة الإسرائيلية كانت قد نجحت فى إصدار عدد من القوانين التى تُعطى الجيش حق حماية «الشعب» و«الأرض» فى إسرائيل. وأن المرات القليلة التى أُصدرت فيها أحكام لصالح ضحايا العمليات العسكرية للجيش الإسرائيلى، هى تغليب نصوص «القانون الإنسانى الدولى» على نصوص القانون الوضعى الإسرائيلى.

وحينما سؤل القاضى أهارون باراك، كم مرة فعل ذلك خلال ثمانى سنوات من رئاسته لتلك المحكمة، قال الرجل إنه فعل ذلك مرتين! وسألته فى الاستراحة بين الجلسات مرة أخرى، وكم حالة تقاضى مرت أمامه خلال عمله القضائى، رد بكلمة واحدة، قليل من الحالات.. ولكن الشاهد أن معظم القضايا حُسمت فى مستويات أدنى من المحاكم الإسرائيلية، ولم تصل منها إلا قلة قليلة من القضايا.

وعلى دعوة للغداء فى منزل أحد أساتذة القانون الدولى بجامعة «ييل»، وهو أيضاً الذى قام بتنظيم المؤتمر، لماذا دعتنى كلية الحقوق، رغم محدودية علاقتى بالقانون الدستورى وانعدام العلاقة بالمرة مع أى محكمة دستورية؟ أجاب الرجل، واسمه «أوين فيس» (Owen Fiss) إن الكلية حريصة على تعريض طلابها وأساتذتها لآراء آخرين من غير المتخصصين فى القانون. فهم يدرسون ويعيشون مع القانون ليلاً ونهاراً، لذلك تحرص كلية الحقوق فى جامعة ييل على دعوة عدد من غير الحقوقيين من علماء الاجتماع والمؤرخين والأدباء والفنانين للحوار مع الطلاب والأساتذة دورياً.

لقد تعلمت من رؤساء المحاكم الدستورية كثيراً. ولا أدرى إذا كانوا قد تعلموا منى شيئاً على الإطلاق!

ورغم أن جامعة ييل هى أحد أهم ثلاث جامعات فى أمريكا (إلى جانب جامعتى هارفارد وبرنستون)، ويكون الالتحاق بها فى غاية الصعوبة، فإنه بمجرد الالتحاق بها يودع طلابها الامتحانات إلى آخر رجعة، إلى أن يتخرجوا. ورغم ما يبدو من سهولة اجتياز سنوات الدارسة، إلا أن جهات العمل الرسمية والخاصة تتخاطف هؤلاء الخريجين، وتعرض عليهم رواتب عالية. قارنت بين هذا المشهد ومشهد جامعاتنا المصرية، حيث يظل خريجوها يبحثون عن أى عمل لسنوات طويلة بعد التخرج.

فسبحان الذى يوزع الأرزاق (يبسط الرزق لمن يشاء)

والله أعلم